هناك موقف شهير لداود باشا رأي فيه البعض لطشة من لطشات الجنون. فقد كان من بين أحلام هذا الحاكم أن يقوم علماء عصره بتطوير اللغة العربية وتبسيط قواعد النحو فيها حتي تكون لغة سهلة وقابلة للاستخدام في سائر العلوم, وحتي لا تقف قواعدها الصعبة حاجزا قويا بين الناس وبين تعلمها بسرعة ودون أي تعقيد. وهنا وقعت القصة الطريفة التي دفعت البعض إلي اعتبارها تصرفا مجنونا من داود باشا, وهذه هي خلاصة القصة كما وردت في دراسة الباحث العراقي رزوق عيسي فقد أراد داود باشا أن يتقن العربية ويتفنن في أساليبها, ويقف علي أسرارها ونوادرها, فأحضر أحد اللغويين الكبار في عصره وأخذ يتعلم علي يديه, وفي أحد الأيام بينما كان اللغوي الكبير يقرأ علي داود باشا فصلا من فصول النحو ويفسر له قواعده بأمثلة قديمة شعر داود باشا بالملل من تلك الأمثلة ومن أشهرها ضرب زيد عمرا, وخطر للوالي أن يسأل شيخة علي سبيل المداعبة عن الجناية التي جناها عمرو ليستحق أن يضربه زيد كل يوم, وهل كان عمرو جبانا وذليل النفس إلي هذه الدرجة حتي أنه يتقبل الاهانة التي تلحق به في كل لحظة وهو ساكت لا يدافع عن نفسه؟
كان ذلك هو سؤال داود باشا للعالم اللغوي الكبير, وقد ضحك العالم اللغوي من السؤال وقال للوالي: ليس هناك يامولاي ضارب ولا مضروب بل اعتاد علماء النحو منذ قديم الزمان أن يأتوا بأمثلة لتقريب القواعد النحوية والصرفية من أذهان طلاب اللغة العربية, ولكن داود باشا لم يعجبه هذا الجواب, وقال للعالم اللغوي: لابد أن هناك جوابا علي سؤال أفضل مما تقول. فسكت العالم النحوي ولم يجد ما يقوله أمام هذه المسألة التافهة, ولكن الوالي اعتبر سكوت العالم النحوي إهانة له.
وما تلا ذلك كان طريفا جدا. فقد أمر الوالي بسجن عالم النحو ليلقي جزاء جهله وغباوته. ثم طلب الوالي أن يحضروا علماء النحو إليه واحدا بعد الآخر وألقي عليهم سؤاله العجيب: لماذا ضرب زيد عمرا؟. فأجاب علماء النحو بما أجاب به العالم الأول, فأمر الوالي بسجن علماء النحو جميعا وأقفرت المدارس والكتاتيب من علماء النحو الذين ضاقت بهم السجون, وأصبحت قضية زيد وعمرو هي الشغل الشاغل للوالي وبطانته الذين انصرفوا عن جميع شئون الدولة ومصالحها حتي يجدوا جوابا يرضي به الوالي عن سؤاله: لماذا ضرب زيد عمرا؟!!
وتنتهي القصة الطريفة بأن يرسل الوالي جواسيسه ورجال مخابراته للبحث في كل أنحاء العراق عن عالم في النحو يستطيع أن يقدم جوابا مقنعا لسؤال الوالي وأخيرا تم العثور علي شيخ كبير, فقدم تفسيرا للضرب الذي نال عمرا علي يد زيد يمكن تلخيصه فيمايلي:
فكلمة عمرو فيها واو زائدة, والذي حدث هو أن عمرا سرق هذه الواو من اسم آخر هو داود, التي كان ينبغي أن تكون مكتوبة بواوين لا واو واحدة, أي علي هذه الصورة: داوود. ولما كان داود هو اسم الوالي فقد رأي النحاة أن عمرا قد ارتكب جريمة السرقة من اسم آخر كريم, ولذلك فهو يستحق الضرب من زيد ومن غير زيد حتي يتأدب ولا يكرر السرقة مرة أخري!!
وبقية القصة ان الوالي أعجبه هذا التخريج أو هذا التفسير الذكي المنافق فأكرم الشيخ الذي فعل ذلك وقال له: لا تخرج من عندي ما لم تطلب مني ما تشاء فأمرك مطاع وطلباتك مقضية!!, فما كان من الشيخ إلا أن طلب إطلاق سراح زملائه المساجين من علماء النحو, وإعادة صرف رواتبهم إليهم, فوافق الوالي علي ذلك, ولكنه اشترط علي هؤلاء العلماء أن يصلحوا طريقة تعليمهم للغة العربية, وأن ينهجوا منهجا جديدا فيه تيسير علي الناس حتي تصبح اللغة العربية سهلة يفهمها الجميع ويكتبونها ويتحدثون بها دون تعقيد.
تلك هي القضية التاريخية التي اعتبرها الكثيرون لطشة من لطشات الجنون في شخصية الوالي المستنير داود باشا
و قد ذكرها الشيخ محمدبن ابراهيم الحمد في شرح متن قطر الندى و بل الصدى قصة لطيفة وقعت بين أحد الأمراء وكان اسمه داود وبين أئمة النحو في عصره فكل من كلمه منهم أدخله السجن و ذلك بسبب عدم تمكنهم من اجابته جوابا مقنعا على سؤاله المتمثل في قوله لماذا يضرب زيد عمرا دائما فكلهم قال تمثيلا فقط و جريا على ما اعتدناه من مشايخنا فلما دخل عليه آخرهم و كان شديد الذكاء و علم بأن مراد الأمير سجن الأئمة لا غير و انما أورد عليهم ذالك السؤال تعجيزا لهم فقال الامام النحوي انا أجيبك لكن بشرط فقال الأمير شروطك منفدة بعد الجواب فقال له الامام النحوي اننا نجعل عمرا مضروبا دائما لأنه سرق حق غيره فتعجب الأمير و قال ما اللذي فقال الامام لقد سرق الواو من داود فإن داود حقه أن يكتب بواوين لأنها تنطق عند ذكره خلافا لعمرو ففانه ينطق بدون الواو و لكن يكتب بها فتعجب الأمير و قال ما طللبك قال سراح ائمة النحو اللذين في سجنك فأطلق سرا حهم
ولهذا يقال بأن النحوي لا يُخطئ لأنه يجد مخرجا بتأويلاته.